ليست هذه الدورة مجرد تعليم خطوات تشكيل الطين وتلوينه؛ بل هي رحلة لاكتشاف العلاقة الحميمة بين يديك والمادة الخام التي تنبض بالحياة في كل نبضة دوران على عجلة الفخار. في عالمٍ يختصر الأشياء بالمصنوعات الجاهزة، يصحبك هذا الفن لتشعر ببطء الإبداع، وكأنك تبني ذكرياتٍ صغيرة تتجسّد في قطعةٍ صامتة تحكي قصّتك بملامحها وملمسها.
تبدأ عملية التعلم بفهم طبيعة الطين: كيف تختار نوعيته المناسب لما تريده، وكمّية الماء التي تحول هذه الكتلة اللزجة إلى مادة مرنة تستجيب لكل ضغط تضعه بإصبعك. ستكتشف أن الطين ليس مجرد مادةٍ خام تضغطها؛ بل هو خيطٌ يصنع حوارًا بين عقلك وإحساسك. ستتعلم كيفية إعداد العجينة، وكيف تجعلها “تتنفس” لتتحلّى بالقوة اللازمة حتى لا يتشقّق أثناء الجفاف.
حين تجلس أمام عجلة الفخار، يكون كل لمسةٍ بدايةً لقصة جديدة. لا يتطلب الأمر قوّة عضلية فحسب، بل تركيزًا داخليًا؛ كأنك تستمع إلى نبضات الطين الذي يحتاج إلى إيقاع بطيء ومنتظم—شبيه بموسيقى هادئة تهدئ النفس. خلال هذه اللحظات، ستعرِف كيف تدير سرعتها بحنانٍ يضمن بقاء الجدار رقيقًا متساوي السمك، وكيف يقدِّم لك كل دورانٍ فرصة جديدة لتشكيل وعاءٍ لا يشبه غيره.
ومن ثمّ، تأتي لحظة “القصة بالتفاصيل”؛ حيث تتعلّم استخدام الأشكال والأدوات البسيطة لإضافة لمساتٍ زخرفية. هنا لا تخطئ المعنى إذا قلت إن لكل خطٍ محفورٍ يدويًا وقعًا فريدًا، وكأن الخطّ هو كلمةٌ كُتبت بيدك تنطق بها القطعة. ستتدرّب على تقنيات النحت البسيط—إزالة طبقةٍ رقيقة من الطين لتكشف النقش—وكذلك تقنيات إضافية تضفي أشكالًا مرتفعةً عن السطح، فتتبادل القطعة حواراتٍ في الضوء والظل.
بعد أن تجفّ القطع، يبدأ فصل “الانصهار في الفرن”، حيث يتحوّل الطين بعد تسخينه إلى خزفٍ قويٍّ لا يخشى الماء ولا حرارة الأكواب الساخنة. هذه اللحظة تشبه ولادة ثانية: فكل قطعةٍ كانت هشةً قابلة للكسر، تجد في داخل النار صلابتها الجديدة، كما لو أنّها استمدت قوتها من حرارة الحرفي نفسه. ستعرف كيف تضبط درجة الحرارة ومدة الحرق، كي لا يتشقق الخزف ولا يفقد ألوانه الزخرفية التي ستطبّقها قبله؛ لأنّ الألوان تحت تأثير النار تتحوّل إلى وتدات لا تختبئ في الظل.
ولا يكتمل الإبداع دون “الحوار مع المادة بعد الحرق”: فبعد إخراج القطع من الفرن وتبريدها، يكتشف الحِرفي عمق التفاصيل الصغيرة—الأخاديد التي التقطت الضوء، والتلوينات التي امتزجت لتخلق تناغمًا لا يُنسى. هنا يمكنك أن تُضيف طلاءً لامعًا أو مطفيًّا، فتُحدّد الخيارات شعور كل قطعة؛ ربما تختار السطح اللامع لكي تلمع القطعة وكأنها تروي لحظة سحرية، أو السطح المطفي لتمنحها هدوءًا بصريًا يدعو إلى التأمّل.
في هذه الدورة، لا نتحدّث عن “مشروعٍ تقني” فحسب؛ بل عن اكتشافك القدرة على تحويل فكرةٍ بسيطة—كوعاءٍ أو طبقٍ أو تمثالٍ صغير—إلى قطعةٍ تنبض بحضورٍ فريد. ستخرج وأنت تحمل بين يديك أول قطعة خزفية صنعتها، تحمل بصمات مخيلتك ويديك وشغفك بطينٍ تحوّل إلى فنٍّ خالد.
فن الخزف وصناعة الفخار يبدأ هنا، حيث يصبح الطين لغةً تمتد بنا من الأرض إلى النار، لتنطق في النهاية بصمتٍ جميل.